الاثنين، 4 فبراير 2019

الهروب من النفس والذات الانسانية

الهروب من النفس والذات الانسانية 
 ان الهروب من النفس ممكن ولكنه مدمر فى اغلب الاحوال ولا يوجد ما هو اعقد واكثر من حيل النفس فى الهروب والنسيان. فمن الناس من يهرب الى عالم اللذة 






 الحسية يتسلى بها عن اّلامه . ومنهم من يهرب الى عالم الخيال والتوهم فيعيش فى عالم اّخر يخلقه بنفسه بعيدا ُعن عالمنا الوحشى الذى يحطم رغباتنا واّمالنا . ومن التاس من يهرب الى عالم الجمال والجلال وينشغل بهما حساُ وعقلاُ وهذا هو دأب الفلاسفة فى الغالب . ومن الناس من يهرب من نفسه بخلق مشكلة جديدة يشغل بها نفسه عن مشكلته الجوهرية وهذا هروب من ألم الى ألم اّخر ولكن هذا الاّخر اخف على النفس . ومن الناس من يهرب من نفسه بأن يهب حياته لرسالة نبيلة أو قضية سامية يستميت فى الدفاع عنها . ومن الناس من يهرب من نفسه بأن بتقمص شخصية انسان اّخر ويظهر أمام الناس بسلوكيات وافعال وعادات هذه الشخصية الاخرى وتتحول كل صفة وخصلة فيه الى ضدها. فهل من الحكمة أن نهرب دائماُ وابداُ عند كل ألم أومعاناة؟ وهل من العقل أن يكون مجرد الابتعاد عن المعذبات والمؤلمات حلاُ سحريا نلجأ اليه بلا تردد كلما ألقت الحياة فى طريقتا عذاباُ أو حزناُ او قلقا ُأو لوعة أو حسرة.؟؟ وحتى إن فعلنا ذلك فهو هروب من اشياء خارجة عنك منفصلة عن وجودك يمكنك تركها في أي وقت وترحل بعيداُ . ولكن ماذا نفعل مع ذواتنا وانفسنا وهى معنا فى كل وقت وحال حتى فى نومنا هى معنا تسبح فى بحر الرؤى والتخيلات ان الهروب حل سهل بل إن النفس تميل إليه فى الغالب وتفضله على المواجهة التى يلزمها نوع من المرارة والمعاناة. ولكن الشفاء فى الدواء المر والطعم البشع فعلينا إن كنا عقلاء أن نواجه انفسنا لا أن نهرب منها. ومواجهتها تبدأ بمعرفتها فما أخطأ من قال (اعرف نفسك) لأن معرفتك بنفسك معناها أن تعرف (ما نتحكم فىه من افكار ومشاعر ومعرفة الضرورة الطبيعية التى تسوقنا بلا وعى منا نحو فكرة بعينها او شعور بعينه) ولو عرفنا هذا لتخلصنا من كل الآم والمعاناة وبدون أن نخسر أنفسنا او نهرب منها. لأن الهروب (مشكلة جديدة تحتاج الى هروب جديد وهذا بدوره يحتاج الى هروب جديد ولن تتوقف النفس عن الهروب ابدا وستكون حياتك وقتها سلسلة متواليه من الهروبات والنكسات والفجعات ). فإن أردت أن تتقى كل هذا العناء فواجه نفسك واعرف طبيعتها .فإن كان هذا مؤلما فهو ألم واحد لن تقابله إلا فى بداية معرفتك بنفسك فقط. فإن إحتملته فلا ألم بعدها ولا معاناة. أما لو اتبعت ميل النفس الى الهروب فستجد راحة يعقبها ألم ثم راحة يعقبها ألم وهكذا بلا انقطاع……فكن عاقلا ولا تتبع هوى النفس وميلها فإن الداء فيه، ولكن لا تظن أن الامر مقتصر على معرفتك بنفسك فقط بل هذه هي البداية فقط وانما العلاج فى ترويضها وسياستها وتهذيبها تماما كما نتعامل مع الاطفال الصغار. فتربية الطفل مقصودها أن يكون نافعا لنفسه ولمجتمعه ولكن الطفل مجبول على طبع وغرائز لو تركناه لها فسد ولو حاولنا نزعها منه تألم وقد يموت. فكان من العقل أن نروضه ونسايسه حسب معرفتنا بطبيعته وفطرته .. . فنفسك مثل طفل صغير تحت ولايتك ورعايتك فيجب عليك أن تروضها وتسوسها لما هو خير لها ولا يكون هذا الا بمعرفتك بطبعها وغرائزها. واخيرا فان الهروب والمواجهة هما فعلين للنفس لا نقول بأن احدهما افضل من الاخر. فالهروب قد يكون افضل احيانا والمواجهة قد تكون افضل احيانا وذلك لأن الأفضل هو الأكثر نفعا او خيراُ. فأن كان الخير فى الهروب فهو الأفضل وان كان الخير فى المواجهة فهى الافضل …… ولكننا نطلق القول فنقول ان المواجهة أفضل من الهروب إن كان هروبا من النفس لا من خطر خارج عنك لأن الهروب من النفس متناقض فيجعلك تقع فى تناقض المشاعر وتمزق الوجدان … وهو متناقض (اى الهروب من النفس) لأن الهارب والمهروب عنه شئ واحد فالهارب هو النفس والمهروب عنه هو النفس. ولا معنى للهروب الا مفارقة الشئ والإبتعاد عنه . فكيف يمكنك ان تفارق نفسك وهى معك فى كل الاحوال والاوقات؟؟ فهذا تناقض سيعقبه حتما حالة من الضياع والتمزق والشتات…. ولكن يمكنك ان تؤجل عملية المواجهة مع النفس إن كانت النفس في حالة تجعل اي مواجهة عقلية معها سببا في انهيار شامل فيمكن وقتها ان تؤجل مواجهتك لنفسك حتى يمر الزمان قليلا وتتغير الظروف والاحوال وتجارب النفس وافكارها ووقتها يمكنك المواجهة فإن المتأمل فيما تعانيه أمتنا أفراداً أو جماعات من أزمات طاحنة، وما يعتريها من مشكلات ضخمة متراكمة في جميع في الحياة، يجد أنها تعود لجملة من الأسباب، أرى من أهمها وعلى رأسها: الهروب من مواجهة الذات.. لقد تأكد لكل ذي بصيرة بالنظرة المتفحصة، والإحصاء العلمي الدقيق من خلال تجارب الأفراد والأمم في الصعود والهبوط وفي النجاح والإخفاق ، أن من أهم أسباب الفشل الذي يسقط فيه معظمنا، هو الهروب من مواجهة الذات بأخطائها وقصورها.. فالنفس بطبيعتها تميل إلى الراحة ، وتنفر ممّن يصدها عن هواها، ويلزمها الحق، وتحب من يمدحها ولو بغير عمل ويتواءم مع مبتغاها، ومن ثمّ، فهي تكره التكليف وبذل الجهد في البحث والتحري، وتبحث عن الحلول السهلة، وإن لم تكن من مصلحتها. ولذا نراها تلجأ في معظم الأمور إلى المنهج التبريري الذي يبعد بها عن الصدق والمواجهة، ويجنح بها إلى الهروب والمراوغة، وما أسرع ما تعلق الأخطاء على شماعة الغير.. !. وهذا من أكبر أسباب سيطرة الفكر الخرافي، والاعتماد على الغرائب في حل معظم مشكلاتنا دون الوقوف على الحلول العلمية والأسباب الحقيقية؛ لأن ذلك لا يكلف النفس وسعاً، ولا يحملها شيئاً..، وهذا ما يؤدي بلا شك - إلى استفحال المشكلات وتفاقمها. إن القرآن قد وضع لنا منهجاً قويماً، في معالجة الأخطاء بصدق وشفافية في مواجهة الذات، من خلال نبي الله "آدم" وزوجه. إن نبي الله "آدم" وزوجه واجها الخطأ بصدق، وحمّلا نفسيهما مسؤوليته، ولم ينسبا ذلك إلى إبليس الذي أغواهما.. {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23) على عكس "إبليس" اللعين الذي نسب الإغواء إلى الله - عز وجل – { قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } (الأعراف: 16) وإن المنهج الإبليسي في التفكير التبريري، ونسبة الأخطاء إلى الغير للأسف يحكم معظم تصرفاتنا، مما يجعلنا أفراداً أو جماعات قد نضفي على آرائنا القداسة، وعلى أفعالنا النزاهة، فما أكثر المبررات التي ترفع عنّا الحرج من الاعتراف بالخطأ ومواجهة الذات!. وهنا أتساءل في ضوء ما أره : * إلى متى تُدار الأمور بأهل الثقة والولاء، وقلما تسند لأهل الخبرة والذكاء؟! * إلى متى يشغلنا المظهر عن الجوهر، والصورة عن الحقيقة، والعاطفة والانفعال عن التعقل والاتزان؟! * إلى متى نغض الطرف عن مثالبنا ونظل نلطم خدنا بأيدينا، حتى يتسرب منّا المخلصون، ويقل المؤيدون ويكثر المعارضون؟! * إلى متى ننظر إلى كل أمورنا بعين الرضا التي هي عن كل عيب راضية، ولا ننظر لها بعين السخط التي تبدي المساويا؟! * إلى متى نجيد فن التبرير، ولا ننتبه إلي الأخطاء والتقصير، حتى يدركنا لا قدر الله فشل التجربة ووخيم المصير؟! * إلى متى لا نمتثل لمنهج نبي الله "آدم" وزوجه في الاعتراف بالخطأ ومواجهة الذات بصدق وشفافية؟! كل واحد منّا بحاجة لساعات من الخلوة التي يوقف فيها هدير المحركات، ويخلد فيها إلى السكون التام، وحين تقوم بهذا لعشرين أو ثلاثين دقيقة تقريباً فسوف يبدأ جسمك وعقلك وفؤادك في التحدث إليك، سيبدأ حديث النفس للنفس، ستبدأ أسئلتها التي طالما هربت منها بإدمانك للانشغال إثر الانشغال، لذا فقد آن أوان لحديث الذات، فلا عذر لك. وفي لحظات السكون النادرة هذه يفترض أن تطرح على نفسك جملة من الأسئلة العميقة والدقيقة، من قبيل: يا فلان هل تراك على الطريق الصحيح؟ هل أنت تسير نحو الوجهة الصحيح؟ ما الذي يرهقك؟ ما الذي يسعدك؟ ما هي أولى أولوياتك؟ هل تعطيها حقها من الاهتمام؟ أي الأعمال تأخذ جهدك وترهقك دون أن تكون ذات أهمية توازي ما تبذله فيها؟ كيف وضعك مع عبادتك، مع جسدك، مع عقلك، مع عواطفك؟ كيف هي علاقاتك، مع أهلك، مع أصحابك، مع جيرانك؟ ما مدى رضاك عن هذا الموضع الذي أنت فيه اليوم؟ أليس بإمكانك أن تصنع المزيد وأن تكون في موضع أفضل؟ هل أنت مقتنع بتصرفاتك وأسلوب تعاملك واختياراتك؟ هل أنت مقتنع بوضعك الاجتماعي؟هل أنت آخذ في الترقي أم الهبوط؟ما القرارات التي يجدر بك اليوم اتخاذها؟ما العلاقات والمشاغل والأعمال والالتزامات التي يفترض بك اليوم قطعها؟وربما وردت عليك أسئلة أكثر خصوصية وارتباطاً بوضعك.. لماذا فعلت كذا مع فلان ولماذا لم تفعل كذا؟ هل كان تصرفك في ذلك الحدث مناسباً؟ أيجدر بك الاعتذار أم لا؟ هذه وغيرها ستطرحها ذاتك عليك إذا أتحت لها لحظات السكون والصفاء والهدوء، وسوف تجد نفسك بين لحظة وأخرى تنتقل من موضوع لآخر، ومن حدث جديد لحدث قديم، وهكذا دواليك. لا بأس. أتح لها الحديثَ كما تريد فهي منذ زمن طويل لم يستمع لها أحد، فلا عجب أن تجد لديها كل هذه الثرثرات المربكة والموقظة في آن واحد. وسيهدأ هذا الضجيج نسبياً وتتوازن أحاديثه إذا أعطيت لذاتك موعداً أسبوعياً للتأمل والمراجعة والحديث الذاتي والخلوة، لأنك ستبدأ في الإجابة بوعي، والتصرف بوعي وسوف تقوم بحلّ جملة من الإشكاليات التي كانت تطرأ عليك. إننا أحوج ما تكون للانفصال الاختياري عن الواقع، والتأمل بهدوء، فذلك من عوامل الاستقرار النفسي، وتصحيح المسار، وحصول الاتزان. تأمل منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- - من خلال دعائه - في إحياء مبدأ محاسبة النفس، ونقد الذات وهو المعصوم -: - " اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت، ومن شر ما لم أعمل". - " اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني". - " اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي ". - " اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم". - " اللهم اهدني وسددني ".. وقفت طويلاً متأملاً، عند قوله -صلى الله عليه وسلم-:
"وكل ذلك عندي"، وقلت: هذا هو حال "المعصوم"، فكيف حال مَنْ هو دونه ممن طبيعتُه الخطأ، ولا تُؤمَن عليه الفتنة، وهو غير معصوم. !!. إن حل مشكلاتنا، والخروج من أزماتنا، وكشف الغم عنا، يكمن "أولا" قبل كل شيء في إحياء منهج الأنبياء - وهم المعصومون - في مواجهة النفس بصدق، ونقد الذات، كما أدرك صاحب "الحوت" أنه لا ينجيه من الغم، ولا ينقذه مما هو فيه، إلا منهج أبيه "آدم"، {فنادى فِي الظُّلُمَاتِ أن لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} (الأنبياء: 87-88).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق